في حزيران عام 1988م، في حي الشجاعية بغزة ووسط عائلة فلسطينية تتكون من 13فرداً، عرفت بالتزامها وتشجيعها العلم والتفوق، ولدت وترعرعت نسمة الغولة، كبقية الأطفال تعشق اللعب والمرح بين أزقة الحي وحاراته، إﻻ أن فقدها للبصر غير الكثير من حياتها ومسار طريقها.
هي نسمة بحديثها وحياتها ومشاعرها، قابلتنا بابتسامتها، وحدثتنا عن بدايتها بنبرات الثقة، تقول: “فقدت بصري منذ بداية تفتح الحياة أمامي، أي في السنة السادسة من عمري، نتيجة إصابتي بالحمى الشوكية، حاول والدي معالجتي لكن إرادة الله كانت أقوى منا جميعاً، فقدت بصري لكنني لم أستسلم للواقع المر الجديد، بل واصلت تعليمي، ومارست هوايتي في العمل المسرحي والتمثيل”.
تنقلت نسمة بين مدارس تعليم المكفوفين، فكانت محطات تزداد بها قوة وشجاعة للاستمرار، تسردها لنا نسمة: “درست المرحلة الابتدائية في مركز النور، ثم المرحلة الإعدادية في مركز الأمل، وتفوقت وحصلت على المراتب الأولى، وتعلمت طريقة الكتابة بلغة برايل، بعدها وصلت إلى الثانوية العامة، فكانت نقطة تمهد لحياة جديدة لي… حصلت على معدل (87%)، وتم تكريمي من قبل وزارة التربية والتعليم العالي”.
أما الحياة الجامعية الجديدة بجغرافيتها وساكني عالمها، تصفها نسمة: “التحقت بتخصص تعليم الدراسات الإسلامية، وحرصت على التفوق والاجتهاد، وتحديت الظروف الصعبة بكل ما أملك، بتشجيع والدي، وأفراد عائلتي، ومدرسو جامعتي، تخرجت في عام 2012 بمعدل جيد جداً بالترتيب الثاني على الدفعة”.
استمرت بحياكة جملها قائلة: “كنت أول خريجة كفيفة تلقي كلمة الخريجين أمام جمهور كبير من الناس، كانت أجمل لحظات عمري حين صفق لي الجميع بحرارة، وأشاد بي كل من علمني وعرفني، مازال تصفيقهم يتردد في أذني ويدفعني للمزيد”.
سردت بقية حكايتها بثقة :”الدور الكبير والفضل كان لله، ثم لعائلتي، وللجامعة الإسلامية وإدارتها التي أسهمت بكل ما تملك بتوفير بيئة جامعية مريحة لي ولزملائي المكفوفين بتوفير الأدوات والوسائل التعليمية الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، ومساعدتنا على الاندماج بشكل أفضل مع المجتمع والعالم الخارجي بما يخدم قدراتنا ويطور من شخصيتنا”.
لم يقف جهد نسمة لتطوير نفسها، بل تراها تتنقل بين أقسام الجامعة، وتتحسس مرافقها وتحمل أوراقاً تتعلق بمشكلات وحاجات الطالبات الكفيفات، تتابع وضعهن الأكاديمي والتعليمي، وتعالجه بتعاون الإدارة، هي كفيفة تتحمل مسؤولية ذوات الإعاقة البصرية بالجامعة، “حتى ﻻ يعانين ما كنت أعانيه، أساعدهن وأشعر بهن، ولا أريد أن يواجهن ما كنت أواجهه في بدايتي الجامعية-تقول ضيفتنا-.
تتابع: “كلفتني الجامعة بعد تخرجي بالعمل كمنسقة لقسم الطالبات الكفيفات بالجامعة، منحتني حرية القرار واستقلالية العمل، ﻻ أشعر بأي صعوبة فالكل هنا يساعدني، ويمدني بكلمات الشكر والدعم، أقوم بعقد النشاطات والدورات وورش العمل والفعاليات الترفيهية التي تصب في مصلحتنا جميعاً وترتقي بوضعنا”.
تضيف لنا: “كانت أمنياتي إكمال دراستي والعمل في الجامعة الإسلامية فتحقق ذلك، واليوم أنهيت رسالتي الماجستير، وحصلت على درجتها العلمية من الجامعة الإسلامية كأول كفيفة أيضاً تحصل عليها، كانت تجربة صعبة لطبيعة الدراسة التي تحتاج لقراءة الكثير من الكتب والأبحاث ومتابعة كل ما يتعلق في مجال رسالتي، ساعدتني صديقاتي، وتكللت بالنجاح”.
بعيداً عن المحطات التعليمية، لم يكن إبداع نسمة فقط بتلك المجاﻻت بل تخطتها لتجد في عالم الأدب جواً جميلاً يمتع الروح ويأخذها إلى القدس وبلادنا المحتلة: “بعد تعلمي الكتابة والقراءة بطريقة برايل استطعت قراءة الكثير من الكتب والروايات، وبذلك طورت قدراتي في جانب الفن وأصبحت أكتب القصص القصيرة والشعر، وأشارك في الكثير من المسابقات، و فزت بالكثير منها”.
“وجدت في الكتابة تفريغاً عن النفس والبوح لها، كنت أحاكي في معظمها ما يدور حولي كمواطنة فلسطينية ترزح تحت نير الاحتلال، كتبت عن شوقي للقدس، وعن تفاصيل أيامي في الحروب الثلاث، وعن الجدار، وخروج الأسرى، أشعر بأنني أشارك شعبي في كل شيء بالكلمة والعاطفة، وأرفض الانعزال والنأي عن هموم شعبي وآماله ﻷي سبب كان”.
كسرت رهبة الظلام وغيرت نظرة من حولها عن نفسها وقدراتها وإعاقتها، أثبتت للجميع أنها قوية وأن العجز هو عجز البصيرة ﻻ البصر، أخذت على عاتقها تغيير نظرة الباقي تجاهها وتجاه من يشبه حالها، ولها أمل بتعاون الجميع، ونشر الوعي بضرورة احترام ذوي الإعاقات، لتختم لقائها معنا بابتسامتها التي لم تغادر محياها متحدية الواقع بجملتها الأخيرة “بقدراتنا نحن وثقتنا نغير تعامل الآخرين معنا”.