أطرقوها وافتحوها بأيديكم

أطرقوها وافتحوها بأيديكم
“هناك دائمًا متسع للتجربة في هذه الحياة، لا تنتظروا أن تُفتح لكم الأبواب، أطرقوها وافتحوها بأيديكم.”
اسمي مجد عبد العزيز، تخرجت من كلية الهندسة، قسم هندسة الحاسوب، في الثامن من آب العام الماضي، بمعدل جيد جدًا. وبعدها بأيامٍ قليلة أرسلت لي صديقتي “رابط” التسجيل في مشروع Go Digital في حاضنة الأعمال والتكنولوجيا بالجامعة الإسلامية، ألقيت نظرة على التخصصات المطروحة، ولم تخلُ القائمة من تدريبات تتعلق بتخصصي الأصلي، لكنني ومنذ سنتي الثالثة في الجامعة كنت قد قررت الاتجاه لمجال أحبه في اللغة الإنجليزية، كانت الخطة أن أتعلم الترجمة ذاتيًا، ولكن قائمة التخصصات المطروحة في مشروع Go Digital كانت تحتوي على تدريب الترجمة، وكان شرط الالتحاق هو درجة بكالوريوس في اللغة الإنجليزية -بديهي صحيح؟-، قررت المجازفة وارفقت شهادة الهندسة في الطلب.
بعد أيام، وصلتني رسالة لأتقدم للاختبار الأول، ثم الاختبار الثاني، ثم المقابلة، ثم القبول النهائي!
الحقيقة أنني رغم فرحتي بالقبول، إلا أنني تخوفت قليلًا من هذه التجربة، بدأ التدريب وشعرت بالغربة لأيام قليلة، صحيحٌ أن لغتي الإنجليزية تُسعفني في كثير من المجالات، إلا أنني الآن في صُلبها، وسط حملة شهادات عُليا في الترجمة والتربية.
زال ذلك الشعور سريعًا، لأن المسؤول عن تدريبنا هو أحد قامات اللغة الإنجليزية، وكان مألوفًا بالنسبة لي، فقد كنت التحقت معه منذ سنوات بالدورة التحضيرية لإختبار الأيلتس.
فاجأني د. رفعت العرعير بشرحه أساسيات اللغة وأنواع الجمل والتراكيب اللغوية والكثير من المواضيع التي ظننت أني أُتقنها، لكني الآن أدرسها وكأني أراها لأول مرة، عن استيعاب عميق وفهم حقيقي لهذه الأساسيات.
ثم بدأت رحلة الترجمة، كنت أتحدى نفسي كثيرًا، فحين يطلب منا الدكتور ترجمة فقرتين من مقالٍ ما، أسهر وأترجمه كاملًا، وحين يطلب منا ترجمة فيديو مدته 30 ثانية، أبحث عن فيديو مدته 3 دقائق، كنت أخوض هذه التحديات بصمت، وأقارن ترجمتي بتراجم الآخرين، بصمتٍ أيضًا.
أعلم أنكم تتساءلون الآن، لمَ تركت تخصصي واتجهت لتخصص لا يشبهه؟
لن أخبركم القصة كاملة، لكن سأخبركم سرًا صغيرًا، لم أشعر أنهما مختلفين تمامًا!
منذ صغري، يتساوى حبي للعلوم والرياضيات بحبي للغة العربية والإنجليزية، خليط علمي-أدبي لم أستوعبه حتى الآن، وحين جربت التخصصين، اكتشفت أن هناك تشابهًا كبيرًا، بالتأكيد تخلو الترجمة من الأكواد البرمجية المزعجة، لكنها مليئة بالبحث والتعلم المستمر. لم أترجم نصًا واحدًا إلا وقد خرجت منه بمعلومات جديدة وفريدة، وأخذني البحث إلى مواقع كثيرة ومفردات جديدة وعوالم لم أزُرها من قبل.
*لمست أثر دراسة الهندسة على تفكيري بشكل كبير، فقد ساعدتني على إتقان الترجمة على أصولها، وأكسبتني مهارة البحث الدقيق التي تعلمتها في الجامعة، ميزة السرعة والدقة في إيجاد المعنى المراد.
كما وساعدني معرفة الكثير من المصطلحات الهندسية في إتقان الترجمة التقنية المتخصصة* .
لا أقول أنني ابتعدت عن الهندسة تمامًا بانتقالي إلى الترجمة، لأن روح المهندس ما زالت بداخلي، ترشدني وتساعدني وتنظم أفكاري*
لم أتعلم الترجمة فقط، بل أعاد لي التدريب شغفًا قديمًا كان قد دُفن منذ أن كنت طالبة في الصف الحادي عشر، الكتابة. اقترح عليّ الدكتور المشاركة في أحد مسابقات القصة القصيرة عن تجربة الحرب الأخيرة، أخبرته أنّ تجربتي معدومة، لم أفقد أحدًا ولا طرفًا ولا بيتًا -الحمد لله-، فأشار عليّ بالكتابة عن ذلك، ماطلت لأيام طويلة ثم قررت أن أكتب لمجرد المشاركة فقط، وحين أرسلت النص للدكتور لم يرد إلا بكلمات قليلة: “It’s beautiful. You have the knack of writing” مع اقتراح لكتاب لطيف لأقرأه.
هل أحتاج شهادةً أكبر؟ أرسلت القصة وفوجئت بعد أيام بأنها كانت ضمن أفضل 10 قصص على مستوى القطاع.
انتهى التدريب التقني وبدأ التدريب على العمل الحر، تعرّفنا مع م. صلاح أحمد على منصات العمل الحر وكيفية العمل عليها، وبدأنا الرحلة الحقيقية في سوق العمل.
لم يتوانى م. صلاح بتقديم كل ما لديه من خبرات ومعلومات ليضمن لنا جميعًا أن نجد عملًا، استطعت الحصول على عدد كبير من الوظائف قصيرة الأجل على منصات العمل الحر ومنصات التواصل الاجتماعي، ثم وقعت عقدًا طويل الأمد مع أحد الشركات العربية وانتهى بي المطاف موظفةً في شركة م. صلاح مدربي الذي أشرف على تدريب العمل الحر.
لديّ الكثير لأقوله، لكني لا أريد الإطالة عليكم، ولأنني لا أحب الكلام الذي يلون الحياة بالوردي، سأكون كما أنا دائمًا، واقعيةً لأقصى حد.
أعلم جيدًا ما تمر به بلادنا، وأدرك مدى صعوبة الحياة علينا في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة، تقول رضوى عاشور، وأحب أن أتذكر قولها هذا لأذكر نفسي أنني لن أموت قبل أن أحيا الحياة التي أريدها وأحبها انتظرها: “هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أن لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا.”
نحن -الفلسطينيون- خيرُ من ينتشل الحياة من قلب الرماد، وخيرُ من يعلّم العالم كيف نصنع من الموت حياةً، ونمضي بها إلى أن تصبح الحياة التي نستحقها ونريدها.
وأخيرًا، كل الشكر لحاضنة الأعمال والتكنولوجيا، المكان الأول والحاضنة الحقيقية لأحلامنا الصغيرة, مركز التجارة الدولي وحكومة اليابان.